لا تخسروا أولادكم!

لا تخسروا أولادكم!

إسمي أحمد ، نشأت بين أب مهندس وأم مهندسة ولا تعمل.

أبي لم يكن يُحبُ أمي ، ليست هذه هي المشكلة ، المشكلة تكمن في أنه كان حريصا على نقل ذاك الشعور لها!

أتذكر في طفولتي أنه كان يقارن بينها وبين نجمات الإعلانات ويسخر من قوامها و من شعرها!

أمي كانت تبكي لكنها ما أبكتني ، كان أبي يحزنها ، وكانت تضمني إلى صدرها.

عندما كان يخرج ، طالما طبطبت علي وحكت لي أن أمها ماتت وهي صغيرة وأنها تربت مع زوجة أبيها ،

أمي كانت تحكي لي القصص وكنت أستمتع كثيرا بحكاياتها.

لكن أبي كان عصبيا للغاية ودوما يعايرها بوحدتها ،

وأن ليس لها مكان تلجأ إليه لأن أباها وزوجته لن يفتحا بابهما لها فكانت تبكي ولا ترد.

أبي كان مدخنا شرها وأمي قالت لي أن السجائر مضرة وحرام أن تدفع فلوس لتؤذي صحتك ،

وأن عليَّ أن أدعو لأبي أن يتوقف عنها.

أبي لم يكن يصلي بينما أمي كانت تصلي وتقول لي أن أدعو لأبي ، أمي قالت لي أن الله غفور رحيم ويسامح المخطئ ، فأحببت الله.

أمي كانت تحتضنني دوما وتقول لي أني كاتم أسرارها وصديق عمرها ،

كنت أرى وجهها في المرآة وهي تضمني إلى صدرها وعيناها مغمضتان في راحة وكأنها تحمد الله أني سندها.

كانت جدتي أم بابا كثيرا ما تصرخ : أضربيه من أجل أن يتعلم ، فكانت أمي تسكت ثم تعتذر لي فيما بيننا عن كلمات جدتي.

في يوم سألتها لماذا لا تضربيني؟

إغرورقت عيناها بالدمع : أضربك ! أضرب الإنسان الوحيد الذي لو دعا لي عندما أموت ، يرفع درجاتي عند الله!

لم أفهم ، لكني فرحت ، شَعَرتُ أن العلاقة بيني وبين أمي قوية قوة سحرية ،

كانت تربيني للآخرة ، لطالما حدثتني عن الآخرة ، كنت أقول لها بس صاحبي فلان مش بيصّلي وناجح في حياته!

إقرأ أيضا: جلست الزوجة على مكتب زوجها وأمسكت بقلمه وكتبت

فكانت تقول من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها ، الدنيا للكل يا أحمد ، لكن الآخرة لمن يتقي الله.

يوم الجمعة كانت تذكرني بقراءة سورة الكهف والصلاة والسلام على رسول الله صل الله عليه وسلم.

أما أبي فلم يكن يصلي الجمعة فكانت أمي تنتظرني عند باب المسجد منذ كان عمري ٧ أعوام صيفا وشتاء.

وتقول لي ونحن عائدان من صلاة الجمعة :
إياك أن تنساني عندما أموت ، أنت عائر من الصلاة أن تدعي لي ،

حتى تقول الملائكة قد دعى لك ولدك.

سألتها من هم الملائكة ، قالت لي هؤلاء خلق من خلق الله خلقوا من نور.

قلت : أنهم ليسوا موجودين ، لأني لم أراهم.

قالت يعني أنت لا تصدق أنه يوجد أكسجين لأنك لا تراه ؟ المؤمن يؤمن بالغيب يا أحمد ، إيمانها بالله كان عظيما.

أبي كان متعدد العلاقات ، أشعر أن أمي كانت تتمنى يوما أن ترحل فيه وأنا معها عن أبي لكنها لم تتكلم.

سمعته يصيح سوف أتجوز ، قالت في أسى اللي يريحك وفعلا تزوج إنسانة عجيبة!

أصبحنا لا نراه ولا ينفق علينا.

وطرد أمي من بيته عندما طلبت مالا.

بدأت أمي تصنع التورتات للمعارف والمحاشي وأنواع من الكفتة ونقوم ببيعهم ، بكيت وبكيت.

قالت في إصرار : الحلال لا يوجدفيه عيب!
لم تقل يوما أنا أتعب عشانك ، كانت تسهر وتطبخ لهولاء دون شكوى.

وبدأ مشروعها يزدهر وأساعدها أحيانا ، لم تمن عليَّ يوما بكلمات مثل شايف تعبي بل دائما مبتسمة راضية!

أبي طلق زوجته وعاد ليفضحنا ويتشاجر مع الزباين ، بكت أمي واعتذرت لهم ،

مكث شهرا ثم تزوج بأخرى ، إنسان مؤسفة حياته!

إقرأ أيضا: انتبهوا ونبهوا أولادكم أن الصلاة هي الأمان الوحيد

طلبت من أمي وأنا في الإعدادية أن تطلق من أبي ،

طبطبت عليّ قائلة آسفة أني وضعتك في هذا الموقف، كان يجب تنشأ بين أبوين مستقرّين.

قلت بحرارة ليس ذنبك ، قالت لي نصبر سنة ، لربما هداه الله.

كنت مجتهدا وأصلي وأمي تمدحني وتدعو لي.

قالت لي : إياك أن تخسر أولادك ، الإبن عملك المستمر ، كيف أخذلها وهي تراني عملا مستمرا؟

أتذكر أني دخنت مع الشباب في الثانوية ، لاحظت تغيير في وجهها ، قَبَّلتُها وقلت لها سامحيني.

لم أترك الصلاة يوما لأنها قالت لي أنها روح المؤمن ، أمي تحسن دخلها وكانت دوما تخبرني به.

أبي سامحه الله تهجم علينا مرات يطلب نقودا ، حاله يتدهور.

وفي يوم وأنا بالثانوية العامة قالت لي أياك أن تقاطع أباك ، الأب أب وادعي له ، والحبل اللي بينك وبين ربك صلاتك ، لا أنسى كلماتها.

كانت تضاعف مجهودها بالثانوية العامة من أجل الدروس ، لم أخذلها حصلت على مجموع 97.

أول مرة أرى الفرحة في ملامحها.

دخلت كلية طب الأسنان ، إصطحبتني أول يوم ، وتركتني عند باب الكلية ، لم تلاحظ أنني تأملتها عبر السور ،

كانت مبتسمة فرحة وقد تعلق بصرها على لوحة الكلية ” كلية طب الأسنان “

أقسمت ألا أخذلها ، لكن الحمد لله رب العالمين ، عدت من الكلية لأجد أمي ليست بالمنزل ،

شعرت بالقلق ، ثم عادت مرهقة بعد قليل ، علمت أنها تقيأت دما وذهبت للكشف عند الطبيب.

ثم كانت الأحداث تجري سريعا ، حال الكبد متدهور ، إحتضنتني كما عودتني.

إنفجرت باكيا قائلا : أنا لا يوجد لي غيرك ،
قالت بإصرار : لك ربنا ، إياك أن تخسر إيمانك.

إقرأ أيضا: إذا مرت حياتنا بزواج فاشل أو مرض

قَلَّ عملها بسبب مرضها ونفقاته وأنا حزين ، وأُساعدها ، ثم بدأت أُطَّبّق ما تعلمته منها وأصنع الطعام ،

وهي تدعو لي ، ولكن تحذرني من إهمال الدراسة ، لكنّي جمعت بين عملي ودراستي وأَكملتُ شهرتها.

لم أحرج وأنا بكليتي من العمل ، أتذكر كلماتها عن الحلال وأدعو لها ألا تموت.

أحتضنها كثيرا وأجلس لآكل معها طعامها الخالي من الملح والدسم ، فتُرَبتُ على كتفي بحنان.

في عامي الثاني بالكلية وفي ليلة من ليالي رمضان ماتت أمي ، دخلت لأوقظها ساعة المغرب فوجدتها ماتت ،

إحتضنتها وسالت دموعي ماذا أفعل وليس لي أحد وعمري 19 عاما.

لكني تذكرت الله وتمتمت : أنجدني يا رب ، أنت لن تتركني وحدي.

طرقات على الباب وجارتنا تقدم لي طبق محشي ساخن ،

وعبر بخار المحشي المتصاعد رأت حالي والدموع في عيني : مالك يا أحمد؟

أشَرت إلى الداخل وأنا أبكي وأتت جارتنا وزوجها وأبنائها ساعدني الجميع وصَلّى على أمي كثيرون في المسجد ،

الذي كانت ترافقني فيه لصلاة الجمعة وأنا طفل.

بكيت، لكن لم يتركني جيراني ، رغم أننا لم نكن على علاقة قوية ، كانوا يومياً يرسلون لي الإفطار ويطرقون بابي.

مكثت شهرا لا أنام ، ثم تذكرت كلماتها لي : أنا عملها الممتد ، أقسم بالله يا أمي أن أَصْدُق ظنك فيّ ولن أخذلك.

ما عاد أحد يحتضنني لكني سأحتضن الأيتام والغلابة والمحتاجين.

بقيت في صناعة الطعام ونجحت دراسيا ، وأصبح لي مشروعا وصفحة على مواقع التواصل الإجتماعي ومشروعي يزدهر
وسميته باسم أمي.

الآن بعد مرور سنوات أكتب بعد تخرجي من كلية طب الأسنان ومن عيادتي بعد رحيل آخر ،

مريض لقد تَحَسّنَت أحوالي وأصبح لدي العيادة إلى جانب مشروع الحلويات التي تشرف عليه زوجتي وعدد من صديقاتها.

إقرأ أيضا: جددوا العهد مع ربكم وشدوا العزم على الإستقامة

أتصدّق عن أمي وأدعو لها دائما وأقول ” اللهم أنر قبرها واغفر لها واجزها بالحسنات إحسانا وبالسيئات عفوا وغفرانا.

أقابل المحتاجين أحسن مقابلة ، وأذكر لجيراني وقفتهم معي.

زوجتى إنسانة طيبة متدينة ، أنجبت حمزة الذي أول ما أجاد الكلام علمته الدعاء ،

وعلمته أن يدعو لأمي وأصطحبه للصلاة وأحكي له عن إنتظارها لي.

أزور أبي على فترات ، طاعة وبر واحتراما لذكرى أمي وتربيتها لي.

أُحبُ زوجتي ، أُقدّرها أحترمها وأحسن معاملتها كما كنت أتمنى أن يقدر أبي أمي.

أعامل حمزة كما عاملتني أمي بحب وإحترام ، وأقول له أنه عملي الممتد.

نعم ، الإبن هو عملك لا تقهره ولا تخسره.

الحمد لله أديت فريضة الحج عني ثم عن أمي ، حلمت بها فَرِحَة متهللة تقول لي :

الإبن مال وعمل ودعاء وصدقة وحج وعمرة ، لا تخسروا أولادكم!

Exit mobile version