لا مفر
لا مفر
جالسة على درج قديم مغطى بالأتربة ، لأحد المحال الذي أغلق أبوابه ، والذي يبدو أنه لم يفتح منذ زمن ، بجوار موقف لسيارات الأجرة.
تحمل إبنة أختها ذات العام الواحد على قدميها ،
ترتدي بنطال من الجينز الأسود ، يعلوه قميص فضفاض أبيض اللون يصل لركبتيها.
تضع بجوارها كيس بلاستيكي أسود اللون ، وضعت بداخله بعض الأغراض الخاصة.
إذا اقتربت منها سترى في عينيها نظرة حزن عميقة ، لا تتناسب مع سنها الصغير ،
تنظر للملاك النائم على قدميها ، تلوح على شفتيها إبتسامة خفيفة سرعان ما تختفي.
تطالع قضبان السكة الحديدية ، ناظرة لذلك القطار الذي يمر أمامها مسرعا ، مخلفا وراءه سحابة من الغبار الكثيف ،
لا يفصل بينهما سوى ذلك الحاجز الحديدي الذي يعلو سور خرساني ، يصل إرتفاعه لقرابة النصف متر.
تشعر بأن ذلك الحاجز الحديدي ، يجسم على صدرها ، كقدرها تماما ، الذي تتمني تغيره للأفضل ،
لوهلة خيل إليها أنها تقفز عالية متجاوزة إياه ، لتلحق بالقطار المسرع ،
محاولة تغير الواقع السيء الذي تعيشه ، متغلبة على كل الألم الذي يعتصر قلبها.
تنتبه من أفكارها ، على صوت سائق سيارة الأجرة الأخيرة ، مناديا على الركاب.
تقترب الساعة من الثانية عشر مساءا ، ومن الصعب أن تجد سيارة أخرى عقب هذه.
عادت للشرود في أفكارها مرة أخرى ، فأعوامها القليلة الماضية رأت فيها الكثير من الأشياء المحزنة ،
وها هو أخرها ، زوج أختها الذي قام بتطليقها وطردها ، وابنتها التي تكمل عامها الأول اليوم ،
والتي شاءت الأقدار أن يصادف أتمامها لعامها السادس عشر هي الأخرى.
تنظر لأختها الجالسة بداخل السيارة ، ترى الدموع تغرق وجنتيها ، تعرف أنها تحملت الكثير من خيانات زوجها المتكررة ،
وضربه يوميا لها على أتفه الأسباب ، بجانب عدم تحمله للمسؤولية.
ترى مستقبلها المظلم ، وما يخبئه لها الغد ، في الحزن البادي على ملامح أختها التي تكبرها بعشرة أعوام.
تنتبه للرضيعة التي تهتز على قدميها ، تنظر إليها بشفقة فما ينتظرها مؤسف بحق ،
لا تدري أتواسي الصغيرة أم تواسي نفسها!
إقرأ أيضا: أبي غياث المكي وزوجته لبابة
يمر أمامها شاب وسيم ، يستقل دراجة نارية ، ينظر نحوها بلا مبالاة ، تتلاقى أعينهم للحظات ،
بينما يواصل سيره غير عابئ بها ، كأنه الحياة ، التي بمجرد أن تنظر إليها مبتسمة ، سرعان ما تعطيها ظهرها وتولى مبتعدة.
تتذكر قبل أن يتوفى والدها ، أنهما كانا يهنئان بعيشة هادئة ميسورة.
وبمجرد وفاته ، بدأت الحياة تكشف لهما عن وجهها القبيح ، المعاش الذي تتقاسمه مع والدتها يكفيهما بالكاد ،
تتمنى لو يعود بها الزمن مرة أخرى ، ليتوقف عند لحظات معينه ، بوجود أشخاص تحبهم.
جاءها صوت أختها ، تخبرها بأن السيارة سوف تتحرك ، نهضت حاملة الرضيعة بين يديها ، تحركت بخطوات ثقيله نحو السيارة.
تشعر وكأن السيارة مستقبلها الذي لا تريده أن يأتي ، فهي تعلم جيدا ما يحمله لها الغد من شقاء ، لكن لا مفر لابد من الركوب.
صعدت للسيارة ، التي إنطلقت ، تشق أنوارها ظلمات الليل المحيط بها ،
تنظر من خلف الزجاج للطريق المظلم ، متمنية أن يكون مستقبلها ومستقبل الرضيعة أفضل مما تتوقع.