لطائف قرآنية
ما الفرق بين النأي والبعد في الإستعمال القرآني؟
وما الفرق بين القرية والمدينة ؟
ولم قال تعالى اسطاعوا أولا ثم استطاعوا في قوله تعالى :
( فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا) ؟
الفرق بين النأي والبعد : يأتي بهما أكثر المعجميين والمفسرين تأويلا لأحدهما بالآخر ،
دون الإشارة إلى الفرق بينهما ، ونستقرئ مواضع الإستعمال القرآني للنأي والبعد :
النأي : يأتي بمعنى الإعراض والصد والإشاحة بصريح السياق في آيات القرآن :
(وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه)
وأما البعد : فيأتي بمختلف صيغه في القرآن على الحقيقة أو المجاز ، في البعد المكاني أو الزماني ،
المادي منهما والمعنوي بصريح آيات القرآن.
والبعد فيها جميعا نقيض القرب ، على حين يخلص النأي للصد والإعراض ، نقيض الإقبال :
كقوله تعالى : إنهم يرونه بعيدا ، ونراه قريبا.
والفرق بين القرية والمدينة : قال تعالى في سورة الكهف آية 77 :
”فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبو أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجرا “
وقال في سورة الكهف آية 82 :
وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا.
جاء في الآية الأولى لفظ القرية ، وفي الثانية لفظ المدينة.
والسبب في ذلك يرجع إلى : أن كلمة القرية مأخوذة من القِرَى بمعنى طعام الضيف ،
وعندما إمتنع أهل القرية عن تقديم الطعام لهم انتفت عنهم صفة القرى لذا أصبحت في الآية الثانية مدينة.
إقرأ أيضا: الوسيلة في القرآن الكريم
وهذا المعنى قد يضاف إلى إختلاف معنى القرية عن المدينة كما قيل فيها :
وهو أن أهل القرية يكونوا على نهج ومعتقد واحد سواء كان ذلك في الخير أو الشر ،
وفي القرآن الكريم ورد تغلب الشر في معظم الأحيان على طابعهم لذا نزل عليهم العذاب كما ورد في آيات العذاب التي حلت بهم ،
بخلاف أهل المدينة التي تتضارب فيهم معتقداتهم لاختلافهم في ذلك.
وأما سبب تقديم اسطاعوا على استطاعوا في قوله تعالى :
فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا. 97 : الكهف.
يرى البعض أنهما لغتان في الفعل بمعنى واحد ، لكن عندما تتأمل تدرك فرقاً دقيقا ، ففي اللغة قاعدة هي :
زيادة المبني تدل على زيادة في المعنى بمعنى أن حروف الكلمة كلما زادت يزيد المعنى معها.
إستعمل الحق ـ اسطاعوا ـ مع الأقل حروفاً ، مع أن يظهروه ، أي فما اسطاعوا أن يصعدوا فوق السد الذي صنعه ذو القرنين من زبر الحديد والنحاس.
واستعمل استطاعوا مع النقب الذي يتطلب البقاء أكثر ،
ولهذا وردت استطاعوا الأكثر حروف مع قوله عز وجل له نقبا أي أن يحدثوا فيه نفقا يمر الجيش منه.
وبالطبع الصعود فوق السد أيسر بكثير من إحداث نقب فيه ويأخذ زمنا أقل بكثير.
فاستعمل الحق اسطاعوا ، الفعل الخفيف مع العمل الخفيف الذي يحتاج إلى جهد أقل ،
واستعمل استطاعوا الأكثر حروفاً مع العمل الشاق الثقيل ،
الذي يحتاج إلى جهد أكثر وزمن أطول ، مما يجعل كل ذي عقل يدرك أن كل كلمة في موضعها.
وبالتأكيد ستتساءل الآن ، فما بال تستطع ، تسطع؟ في قوله تعالى :
( سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) ـ ختام الآية 78 من سورة الكهف.
وقوله عز وجل :
(ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) ختام الآية 82 من سورة الكهف.
إقرأ أيضا: السلطان الذي لم يهزم قط
فقد إستعمل الحق الفعل ـ تستطع ـ الأكثر حروفا عند مفارقة موسى للعبد الصالح ،
وبالطبع كان موسى مثقلاً مما رأى من مواقف لم يستطع معها صبرا وينتظر تأويلها فناسب ذلك الثقل النفسي الثقل في الفعل ، تستطع.
وأيضا يريد العبد الصالح أن يلفت نظر موسى إلى أنك لم تجاهد نفسك وتحاول أن تتصبر مع أنك أخذ تعهداً بأنك ستكون صابرا.
وأما بعد أن زال الثقل النفسي وعرف تأويل تلك الأمور وأصبح مستريحا ، إستعمل الفعل الخفيف تسطع ، الذي يتناسب مع الموقف ،
وفيه إشارة إلى أن ذلك تأويل ما لم تتحمل بأقل إستطاعة للصبر.
فقال : ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا.
ومن العجب أن هذه الأفعال–اسطاعوا –استطاعوا –تستطع – تسطع ،
لم يختلف القراء في قراءتها بهذه الصيغ كل في موضعه وهذا من دقة علم القراءات ،
وهكذا تجد كل حرف في موضعه للدلالة على معنى أراده الله جل وعلا.