لن تعرفي قيمتي إلا إن خسرتيني الجزء الأول
تزوجته وكان متوسط الحال والجمال ، رجلا مثقفاً قارئا نهما للكتب غير شهادته الجامعية التي تملأ جزءا لا بأس به من الحائط ،
فقد قلتُ بداخلي بعد أن عرفت وضعه المادي :
مع الوقت والصبر ، سيتحسَّنُ وضعه ،
وسيشتري لي غرفة نوم جديدة عوضا عن المهترئة ، وبعد ذلك سنستقل عن أهله ونستأجر منزلاً نقوم بفرشه تدريجيا.
وعندما نشتري كل ما يلزمنا ، سنشتري منزلاً ونتخلص من الأجار.
قلت ذلك كوني لا أحب التبذير وهو كذلك الأمر ، فبأشهر خطبتنا التي لم تتجاوز الستة أشهر ،
اشترى لي ستة بلوزات وستة بناطيل ، وبكل مرة كان يقول لي : أقوم بادخار نقود كي يكون شهر عسلنا لا يُنسى.
إلى أن أتى شهر البصل الذي فاحت رائحته منذ أول ليلة ، فبدل أن يشتري لي طعاماً جاهزاً كوني عروس ،
طلب مني أن يذوق الطعام الذي تُعِدُّهُ يداي ، مع أني شرحت له أني لا أُجيد الطبخ لكنه أصر لدرجة أنه اتصل بأمه التي ذهبتَ عند أخته المتزوجة مع أبيه وأخيه ،
وطلب منها أن تُعَلّمني طريقة طبخ الفراخ بالفرن مع الخضار والأرز.
على الرغم من محاولات أمه وأخته أن تشرحا له أني عروس ويجب أن يشتري الطعام جاهزا لا أن أقف وأطهو ،
كي نمضي وقتنا نتسامر ونتجاذب أطراف الحديث ، وتعهَّدَت أمه بتعليمي الطبخ لاحقا ، لكنه أصرَّ على رأيه.
قام بأخذي فسحة إلى حديقة الأزهر بالقاهرة على مدار الثلاثة أيام ، وكانت تبعد عن المنزل أربع ساعات ؛
كانت تلك الساعات من أصعب الساعات التي مرت بحياتي ،
كون الطقس حار لدرجة إن وُضِعَت بيضة تحت الشمس ستُسْلَق دون أدنى انتظار ،
غير المواصلات التي لم أستطع عدَّها ، لدرجة أني قلتُ بنفسي : الفسحة معكَ أشبه بالأشغال الشاقة.
لم ينسَ أن يجعلني أُعِدُ سندويشات “الجبنة واللانشون” إن شعرنا بالجوع كي لا نصرف نقوداً كثيرة على الطعام الجاهز.
إقرأ أيضا: الإختيار
بعد ثلاثة أيام عاد أهله ، فنزل إلى العمل ، وعلى الرغم من أني قلتُ له :
أرجوك ابقَ أربعة أيام أخرى بعدها انزل إلى العمل ، وبذلك تكون قد بقيتَ معي أسبوعا.
لكنه قال بابتسامة أخذت عرض وجهه : أرجو ذلك يا عزيزتي ،
لكن كوني موظفاً لا أستطيع أن أطلب إضافة أيام أكثر فوق الأيام التي أخذتها.
ومن بعد تلك الأيام الثلاث بدأت رحلة معاناتي معه.
مضى شهر واحد عشته في سلام نفسي ، إلى أن صرخت أمه قائلة :
المصروف الذي تعطه لي لا يكفي بظل غلاء الأسعار ، غير أدوية الضغط والسكر لأبيك التي ارتفع سعرها أيضاً ،
إن أخيك الأصغر منك يدفع نقودا أكثر في المنزل ،
وبما أنك الآن متزوج ومسؤول عن إمرأة فيجب أن تزيد المصروف ثمن أكلها وشربها.
كانت آخر جملة كالصاعقة ضربَتْ رأسي ، وقرَّرْتُ أن أقوم بإقناعه بأن يزيد المصروف أكثر مما طلَبَتْ ، لكني فوجئتُ بأنه قال :
لن أزيدَ لها جُنيهاً واحداً ، فأمي تحب النقود وما تأخذه يكفي.
لم أجد كلمات أستطيع نطقها ، كونه رجل بالغ مثقف بمنتصف الثلاثينيات وأنا إبنة العشرينيات.
فقلت في قرارة نفسي : من المؤكد أنَّ له وجهة نظر بالموضوع وربما كلامه صحيح.
إلى أن أقْحَمَتني أمه بالموضوع ، قائلة : يجب أن تقنعي زوجك أن يزيد المصروف.
ثم بدأت بِعَدّ المواد الغذائية التي ارتفع سعرها ، ولم يَغِب عن ذهنها شيء ، واخْتَتَمَت حديثها قائلة :
إنَّ زوجكِ لا يعي أنّ أخيه يريد الزواج ولا يفيض من مرتَّبه شيء لادخاره.
فقلتُ لها : لا عليكِ أمي ، سأقوم بالحديث معه.
عاد مساءاً إلى المنزل وبعد أن أكل وارتاح ، قام بقراءة أبيات شعر ألَّفها لأجلي كما اعتاد أيام الخطوبة ،
وقبل أن يضيع تركيزي بجمال كلماته قلت له الكلام الذي قالته أمه ، وأردَفْت :
أمك معها كل الحق عزيزي ، فأخيكَ يجب أن يُنْقِصَ المصروف كي يُجَهّز وضعه استعداداً للزواج ، وبذلك سيقع الجزء الأكبر على عاتقك.
إقرأ أيضا: لن تعرفي قيمتي إلا إن خسرتيني الجزء الثاني
حتى لو قام بإنقاص المبلغ ، فالمبلغ الذي تأخذه يكفي ،
وإن لم يكن يكفي فلتُقلل من مرات طهي اللحوم والفراخ والسمك وتقلل من أنواع الفاكهة التي تحضرها.
نظرت له والدهشة تعلو وجهي ، وأنا أشعر بالضيق من كلامه ،
فالتزمت الصمت دقائق ثم خرجت إلى الصالة وأشعلتُ التلفاز لعلَّ تأثير كلامه يزول ، لكن ما إن رأتني أمه حتى هرولت لي قائلة :
ماذا قال لكِ؟!
قَصَصْتُ لها ما قال ، فتَبَدَّلَتْ ملامحها ثم قالت : له ما أراد.
مضى أسبوعان لم تجلب إلى المنزل سوى مرة واحدة بالأسبوع فراخاً والأخرى سمك ،
وجلبت مرة واحدة بالأسبوع نوعان من الفاكهة ،
وبقية الأيام كان الطعام إما خضاراً مطهية بدون لحوم أو بيض وجبنة وفول وطعمية.
بدأ الضيق يعتصر قلبي ، فقد كنت أحيا حياة عند أهلي كالأميرات آكل ما تشتهي نفسي.
ما زاد من ضيقي أكثر أنه باليوم الذي لا تطهو أمه فيه اللحوم إما يأتي وقد تناول الطعام في الخارج ،
أو يجلب معه التونة المعلبة واللانشون له فقط وإن سألته أمه لماذا لم تحضر للجميع قال : أنتم تناولتم الطعام أما أنا فلم أتناول.
مضت بضعة أشهر لم يتأثر بأن يفتح الثلاجة ويراها فارغة وأن يعرف أني آكل طعاماً كالذي يُعَدُّ للمرضى ولا يُحرِّك ساكنا ،
فأصبَحْتُ أشعر بالاشمئزاز من مغازلاته التي لا تتوقف وأيقنت أنَّ حبه الذي يدَّعيه نابع من الكلمات فقط.
كانت نفسي عزيزة عليَّ لدرجة أنه لو وُضِعَ أمامي خبراً وبصل آكله بدون أن أفتح فمي بكلمة ،
وعندما طفح الكيل معي لجأتُ لأهلي الذين لم يحركوا ساكناً سوى أن قالوا سنتكلم معه ،
لكن الصدمة أنَّ رده عليهم كان كرده عليَّ فقال والدي :
لقد تحدَّثنا معه تارة أنا وتارة أمكِ وتارة أخيكِ لكنه متمسك برأيه لأبعد الحدود.
لم يمضِ يومان حتى أتت ببالي فكرة أشعلَتْ المشاكل بيننا.
يتبع ..