ما قبل النهاية
ما قبل النهاية
لم يغمض له جفن منذ ثلاثة أيام ، فلم يتبقى على موعد إصطدام النيزك سوى أربع وعشرون ساعة ،
حسبما يشير ذلك المؤقت المتواجد في وسط شاشه التلفاز ، الذي توقف عن البث منذ ثلاثة أيام ،
لأنه لم يعد هناك جديد يقال ، بعدما فشلت كل محاولات النجاة وأصبح الإصطدام بالأرض أمرا حتميا.
أخذ يتذكر قبل شهرا عندما بدأت وكالات الأخبار في تداول الخبر ، وكيف أنه انتشر في أرجاء العالم في غضون يوم واحد ،
وكيف أن البعض سخر مما سمع ، بينما شكك البعض الآخر في الأمر ، ولكن بعد فترة وجيزة أيقن الجميع بأن الخبر صحيحا ،
عندها توقفت الحياة تقريبا ، فلقد علم الجميع بهلاكهم لا محالة ، فتوجهوا جميعا لدور العبادة ،
كلا حسب عقيدته ، لعلها تكون ملاذا آمنا لهم ، أملين أن ينجوا مما سيحدث.
ظل جالسا هو في بيته ، وحولة طفليه الصغيرين وزوجته ، صارحها بعلاقته بأحد الفتيات وطلب منها أن تسامحه ،
فهو لا يريد أن يموت وهناك مظلمة لأحد عنده ، لم يكن هو الوحيد من فعل ذلك وطلب المغفرة والعفو ،
بل لقد تحول الجميع فجأه لملائكة ، فهذا عمه الذي طلب منة لسنوات طويلة أن يعطيه حقه في ميراث أبيه وكان يرفض دائما ،
جاء إليه والدموع تغرق في عينيه ، حاملا حقيبة مليئة بالنقود ، طالبا منه أن يسامحه وأخذ يذكره بصلة الرحم التي بينهما ،
إبتسم ، بالرغم بأن القادم لا يدعو للضحك.
تعجب من طبيعة البشر فهم حين يشعرون باقتراب أجلهم تتبدل أحوالهم للنقيض ،
ففتيات الليل إرتدين الملابس المحتشمة وأعلن توبتهن ، بينما أغلقت الملاهي الليلة أبوابها ،
كذلك اللصوص أخذوا يطلبون الصفح من ما سطوا على أموالهم ،
ولكن أكثر المشاهد الصادمة التي لم يكن يتخيل حدوثها ، خروج رئيس الدولة في خطابه الأخير طالبا من شعبة أن يسامحوه.
بدأ الحديث ينتشر بين الناس بأن وكالات الفضاء تنظم الكثير من الرحلات للأغنياء وصفوة الكوكب ، للذهاب للقمر ،
إقرأ أيضا: أنت روح جائت الأرض في تجربة لوقت من الزمن
في محاولة أخيرة للنجاة بأنفسهم ، ترى إذا كان يمتلك الكثير من المال كهؤلاء ، هل كان سيفعل مثلهم؟
لا يدري حقا فهو الأن جالسا لمواجهة مصيره كالمليارات مثله ،
ولكن بالتأكيد إذا أتيحت له الفرصة للنجاة بأطفاله وزوجته لن يتردد لحظة في اغتنامها ،
ليس هذا وقتا للكذب على النفس ، والتظاهر بادعاء مثالية زائفة.
تحدثه زوجته بضرورة أن يتوجهوا كغيرهم للجلوس في المسجد لعله يكون ملاذا أمنا لهم.
يالك من حمقاء يا عزيزتي ، أتريدين الكذب على (الله) ، والتظاهر بالإيمان ،
أتظنين أنه لا يعلم بما نخفية بداخل صدورنا ، رد عليها قائلا:
إذا أردت الذهاب فافعلي ما يحلو لكي ، أما أنا فسأظل هنا.
قال جملته وخرج لشرفة البيت ، وهو يشعل لفافة من التبغ ، وينظر للشوارع الخاوية ،
والمتاجر التي ترك أصحابها أبوابها مفتوحة ، والسيارات التي تراصت بجوار بعضها البعض مفتحت الأبواب ،
كان يرى هذا المشهد في الكثير من أفلام الخيال العلمي التي تنتجها هوليود.
لكن لم يخطر على ذهنه يوما أن يكون هو أحد الأبطال ، ويعيش تلك الأحداث ، تمنى أن يكون ما يحدث كابوسا سيصحوا منه بعد قليل ولكنة للأسف واقع يعيشه العالم بأسره ،
جاءت زوجته للوقوف بجانبه ، وهي تخبره بهدوء بأن يتوقف عن التدخين لأن الطبيب أخبره بأنه سيكون سببا في وفاته ،
للمرة الثانية إبتسم بسخرية ورد عليها قائلا:
لقد أصبحت مسببات الوفاة كثيرة ، ولكن هل تعتقدين أن التدخين سيكون أسرع من قدوم النيزك؟
لم ترد ، شعرت بتفاهة ما قالته ، بينما نظر هو للشرفة المجاورة له ، والتي كان دائما ما يسمع منها شجار جيرانه ،
والذي توقف بالطبع منذ إنتشار خبر النيزك ، وأخذ يفكر ، هل يجب أن تحدث كارثة لنتغير للأفضل؟
لماذا لا يكون الجميع جيدين لا يتشاجرون ، ولا يقتلون ، ولا يسرقون؟
نظر للخلف ليرى ذلك العداد على شاشه التلفاز ، لم يتبقى سوى خمس عشر ساعة على الإصطدام.
إقرأ أيضا: عدة نصائح إذا طبقتها تغير حياتك للأفضل
حدث نفسه بأنه ربما يكون محظوظا ، لأنه سوف يرى مشهد نهاية العالم ، فالكثيرين لم تتح لهم مشاهدة ذلك العرض ،
ولكنه يشاهده من المقصورة الرئيسية ، فحسبما أشارت التقرير أن مكان الإصطدام سيكون (القاهرة).
طلب من زوجته أن تعد لهم بعض الطعام فليس من اللائق أن يموت وهو جائعا ،
إنصاعت الزوجة لطلبه ، بينما دخل لغرفة النوم ، قام بفتح خزانة الثياب وأخرج بذلته السوداء التي يحتفظ بها للمناسبات الخاصة ،
ولا يوجد مناسبة أفضل من تلك لارتدائها للمرة الأخيرة ، قام بلف ربطة عنق زرقاء اللون ، وتأكد من أنها في وضعها الصحيح.
ترى هل أصابة الجنون؟ ربما فأي شخص يمتلك بعضا من العقل سوف يصاب بالجنون حقا ، من تبدل أحوال الناس للنقيض.
إنتهى من تناول الطعام ، نظر لأطفاله والدموع تلتمع في عينيه ، كم كان يتمنى أن يمهله القدر بعضا من الوقت حتى يستمتع بالجلوس معهم أكثر ،
وأخذ يوبخ نفسه على كل الوقت الذي كان يمضيه خارج البيت راكضا وراء قوت يومه ، لكي يعود ليلا ليجدهم نائمين ،
لقد أضاع الكثير من الأوقات التي كانت ستكون سعيدة لو كان برفقتهم وبرفقة زوجته ، ولكنها طبيعة الأمور على كل حال ،
فجميعنا لا يعلم بقيمة الأشياء إلا عند فقدها ، شعر بالنعاس يداعب جفونه ،
فحاول مقاومته فليس ذلك هو الوقت المناسب للنوم ، لسوف ينام كثيرا فيما بعد ،
ولكنه لم يستطع مقاومته أكثر من ذلك وأغمض عينية رغما عنه.
فتح عينيه ، ناظرا للعداد على شاشه التلفاز ، واتسعت عيناه دهشة ، لم يتبقى سوى خمس دقائق فقط ،
إقرأ أيضا: بين الوحدة والعزلة
يبدو أنه نام كثيرا ، نظر حوله فوجد أن زوجتة وأبنائه كذلك نائمين ، تردد في إيقاظهم ، فهو يريد أن يحتضنهم لأخر مرة ،
وفي نفس الوقت لا يريد أن يرى الرعب في عيونهم لحظة الإصطدام ، ولكنه في النهاية إتخذ قراره وقرر أن يوقظهم.
تعلقت عيونهم جميعا بالوقت الذي يتضاءل على شاشة التلفاز وهم محتضنين بعضهم البعض ، وخفتت الأصوات تماما في الخارج ،
حالة من الصمت الرهيب سيطرت على الأرض ، خيل إليه لو أن شخصا صاح الأن في أمريكا ، لاستطاع آخر سماعه في أستراليا بسهولة.
لم يتبقى سوى ثلاثون ثانية على الإصطدام ، أغلقت زوجتة عينيها ، بينما أخذ هو يردد الشهادتين بصوت خافت وطلب منها ومن أطفاله ترديدها أيضا ،
نظر إليهم نظرة أخيرة ، متمنيا أن يجتمعوا في الجنة، ونظر للتفاز لم تتبقى سوى ثلاث ثوان ، أغمض عينيه واحتضنهم بشدة ، منتظرا حدوث الإصطدام.