من أجله تعلمت التسول

من أجله تعلمت التسول

لم أنسه يوما ، فمنذ أن طرده والدي وعيناي تبحث عنه في كل مكان ، وأتبع خطواته ، وأتطقس أخباره ، أتخيله في كل إنسان ، أتحدث معه كأنه موجودا تماما ،

فهو توأمي ، ولا أرى نفسي إلا وهو بجانبي.

حتى بعد مرور عشر سنوات تقريبا ودون كلل أو ملل في لقاه ، تحققت أمنيتي والتقيت به أخيرا ، ليس وجها لوجه بل من بعيد وهذا يكفيني.

المهم أنه هو بخير وحي يرزق ، عكس ما أخبروني به بعض الأصدقاء والمعارف.

منذ علمي أنه أصبح يعمل بمزرعة للخضرة والفواكه ، وأنا أزور المكان كل يوم خلسة أختبئ خلف بعض الأشجار ،

وأنظر إليه بتمعن كيف يعمل بجهد والعرق يتصبب على جبينه قطرة خلفها قطرات ،

وتلك الصناديق التي يحملها الواحدة تلوى الأخرى على كتفه ويصطفها فوق بعضها البعض.

لقد كبر ويليام كثيرا حقا واشتد عوده ، وأصبح له جسد قوي بعضلات مفتونة ، تغير ليعافر الحياة بمفرده.

أظن أن الحياة قست عليه كثيرا ولا تزال ، ولكنه المسكين لا يزال يثابر ويتعارك معها حتى الآن.

عن غير العادة وفي يوم أختبئ فيه خلف شجرة التفاح أبحث عن ويليام يمينا يسارا ، أنتقل من شجرة لأخرى فلم أجد أثره.

وعندما يئست ، جلست تحت ظل شجرة ضخمة مقطوعة خاو جذعها وكأنها صممت لتكون مأوى لمن أنهكه التعب ، مثلي تماما.

وأنا على ذاك الحال أتذمر بعدم ظهوره ، وإذ أسمع صوت خافت يقف أمامي على حين غرة ،

لا أعلم من أين خرج ، وكأنه شبح ظهر فجأة.

هل أساعدك بشيء يا آنسة؟

أثناءها إرتعبت ورفعت رأسي نحوه بسرعة راجية أنه لم يكشف أمري لنفس الشخص الذي أنتظر قدومه منذ مدة ، وإذ به هو نفسه.

إقرأ أيضا: حين احتد الشجار بيننا أنا وزوجي

حينها أصبح كل جسدي يرتعش ، ورأسي يلف بي ، أحسست أن الأرض تبتلعني على مهلها ،

ليتها فعلت ذلك بسرعة وقضمتني دفعة واحدة وأنهت ذلك الموقف المحرج.

من الإرتباك وكثرة فرط الحركة بسبب هول اللقاء الذي طالما إنتظرته بعناء لكي نتواجه بالأخير وكل واحد غريب عن الآخر ،

أو بالأحرى هو من يراني مجرد فتاة غريبة ، لم يرها سوى في تلك اللحظة ،

ليته يدرك أن هذه الفتاة هي نفسها مادلين التي تربت معه منذ الصغر التي كانت تمشي كظله ولا تفارقه منذ أن تستيقظ ،

حتى تأفل شمس الأرض بمغيبها.

ليته يدرك أنها نفس الفتاة الصغيرة التي لطالما كان يحميها ويدللها بطيبة تصرفاته معها.

هل أنت بخير يا آنسة ، هل أساعدك بشيء؟
لا لست بخير أنا ، أنا جائعة.

لم أعلم حينها كيف أجيبه ، فلم يأتي في ذهني سوى أن أخبره بأنني جائعة.

تذكرت عندما كنت صغيرة ، أطلب منه ذلك فيذهب على الفور للمطبخ ويأخذ منه أي شيء يسد جوعي.

طلب مني لحظتها الإنتظار دقيقة ، فذهب ورجع محملا بقفة مليئة بالفواكه على أشكالها ،

وبعض الخضرة قدمها لي مبتسما كما عهدته سابقا ، طيبته تسبقه.

لم تستأصل منه رغم فقره ، فهو دائما كان عطوفا وحنونا على الفقراء الذين يحس بضعفهم وقهرهم.

بعدها رحل بعدما طلب مني أن أنتبه على نفسي ، مودعة إياه بشكري له على صنع جميله معي.

رغم أنه لم يدر ما بيننا أي حديث ، ولكن كنت طائرة بالفرحة ، كم سررت أنني إلتقيت به مجددا ،

وكأنها عادت روحي للتو لجسدي من غربتها ، مع أني لدي بعض الشعور الضئيل بالحسرة على عدم تعرفه على مادلين قطته الحلوة ،

أم أنا التي تغيرت لهذا الحد لأصبح بشعة كالهرة الهرمة.

إقرأ أيضا: تقول يكبرني بثلاثة عشر سنة فقط

بعد ذلك لم يعد لي أي عمل أقوم به سوى مراقبة ويليام حتى عائلتي لاحظت تشتتي وغيابي عن الدروس الخصوصية ،

وحصة الموسيقى التي أحبها أهملتها هي أيضا وأهملت كل شيء أحبه ،

ومن بينهم زيارة أصدقائي المقربين.

فقررت أن أخبره الحقيقة ، فلم أعد أطيق هذا الوضع.

وبينما أنا أبحث عنه في المزرعة ، وما إن لمحته من بعيد حتى ركضت نحوه غير منتبهة أين أرمي بقدمي.

وبينما أستعد لمناداته ، فلم تنطلق من فمي بدلا اسمه سوى صرخة مدوية ،

سقطت على إثرها بسبب تعثري في حفرة كبيرة بعض الشيء ، أظن أنه سيغرس فيها شجيرة ما.

إنتبه ويليام وبعض العمال الذين بالمزرعة على صوت صراخي ، فركضوا جميعهم نحوي ،

فكنت أنا أتأوه وأتنحنح كالطفلة المدللة التي لا تقوى على سقطة حنونة كهذه.

كان كل الذين إلتفوا حولي يطمئنون على حالي ، إلا ويليام.

فعندما إستوعبت ما حدث لي رأيته واقفا متسمرا يراني بذهول وكأنه رأى عفريت.

إبتلعت لساني لحظتها وبقيت عيوني خاشعة غارقة في عيونه التي تبادلني نفس النظرات ، التي تقول أشياء كثيرة بصمت ،

يا ترى ما الذي جعله مدهوشا هكذا لما رآني للمرة الثانية؟

ثم إنتبه على نفسه ، ومد يده كي يساعدني بالوقوف ، ثم تبسم قائلا ما أقسى الجوع عندما يداهم بطن الإنسان.

وأردف أظن الجوع هذه المرة تملكك أكثر عن سابقه يا فتاة؟

حينها كنت كالساذجة أنحني برأسي تأكيدا على كلامه ، ونسيت أنني جئت خصيصا لأخبره الحقيقة ، من أكون أنا.

أخذت القفة المملوءة بالخضرة والفواكه التي أعطاني إياها ويليام ، وعدت بها أدراجي خائبة الرجى.

إقرأ أيضا: زوجتي أحيتني ثم ماتت

في الطريق تصدقت بها للمتسولين ، ثم توجهت إلى منزلي ،

وما إن وصلت حتى أجد شخصا واقفا أمام باب منزلنا يضع قبعة تكاد تغطي نصف وجهه ، وأحد قدميه مرفوعة مثبتة على الحائط.

إستغربته لما هو واقف ولم يحاول حتى أن يكلم الحارس.

هاي أنت ، هل من خدمة أقدمها لك سيدي؟

لم يجيبني الشاب مباشرة في تلك اللحظة فمررت بجانبه غير مبالية بتصرفه الغريب ، وأردت أن أوكله للحارس حتى يهتم لأمره.

وبينما أستعد لتجاوزه إذ به يرفع ذراعه للأمام حتى يمنعني العبور من أمامه ،

فكدت أن أقوم بتصرف أحمق ، كضربه مثلا على رأسه لولا سماع صوته الذي أصبحت اعرفه خير المعرفة مؤخرا.

هل ربيتك كل ذاك الوقت حتى تكوني متسولة يا مادلين؟

حينها رفع القبعة قليلا لتظهر عيونه الزرقاوتان التي أعشقهما كزرقة السماء الصافية ، لم أصدق لحظتها أنه ويليام نطق بإسمي وعرفني أخيرا.

لم اتمالك نفسي وارتميت بأحضانه أبكي بكاء الإشتياق والعتاب معا لأنه غاب عني كل هذه الفترة ولم يسأل عني ولو لمرة.

فتأسف لي وأخبرني أنه لم ينسني قط ، فهو كان مسافرا ولم يعد إلا فترة ليست بالطويلة ، وفعل ذلك غصبا عنه ، ومن أجلي كذلك.

وعندما سألته ما الذي يعنيه ، وهو يعلم جيدا كم أنا متعلقة به!

فكان رده أنه فعل ذلك بإتفاق مع والدها قبل أن يطرده من منزله ، فهو بالأساس يكون إبن الخادمة التي تعمل عندنا ،

فهم تقريبا كانوا يعيشون معنا لهم غرفة مخصصة للخدم.

فبعد أن رأى والدي تعلقي بويليام المفرط لا آكل حتى عندما يأكل هو معي ، ولا ألعب إلا معه ، وَلا أسكت حتى يطيب خاطر ويليام ،

ولا اقوم بأي عمل مجدي لنفسي إلا بوجود ويليام.

إقرأ أيضا: أحد الجيران تُوفيت زوجته

فلاحظ والدي أن الأمر خرج عن السيطرة ، وزاد عن حد تصرفاتي ،

فأراد أن يبعد ويليام عن سبيلي حتى تكون لي شخصيتي المستقلة ، وأن لا أتعلق به أكثر حتى لا يصبح في المستقبل شيء لا يحمد عقباه ،

فلا أحد يحب إبن خادمته ويتزوج به.

هذا هو كان تخوف والدي الكبير ، وأظن تخوفه لم يمنع القدر بلقائنا مجددا ، وأنا لن أعيش ثانية بعيدة عن نصفي الثاني ،

وهذا ما قررناه أنا وويليام ، أن نتزوج عما قريب.

ولكن حتى يقوم أولا بشراء الحقل الذي لم يبقى إلا القليل ويتم إتمام سداد المبلغ المتبقي عليه ،

ورغم محاولتي القيام بمساعدته إلا أنه أبى ذلك حتى عندما يأتي لخطبتي ،

يكون بحوزته ما يبعد فكرة والدي أن إبن الخادمة ليس متسولا ، بل أصبح رجلا مقتدرا يشرفه أن يضع يده بيده.

كيف عرفتني يا ويليام. مع أنك لم تعرفني من الوهلة الأولى؟

عندما صرختي ، ظننت أن أمرا جللا حصل لك ، ولكن عندما رأيتك واقعة في تلك الحفرة التي لا تؤذي بعوضة ،

وتقومين بنفس التصرفات التي كنت تقومين بها في صغرك من التأفف والنحنحة الزائدة المصطنعة ،

والعينين التي نصفها مغمضة والأخرى تغمز بجفنها تدعي بها البكاء حتى تجذبي إنتباهي فقط وأتعاطف معك ،

وتضطريني بالأخير حملك على كتفي ، هنا فقط لم أشك أن تكونين أنت.

ههههههه ولكن لما لم تفعل ذلك وتحملني كما كنت تفعل!؟

سأفعل الأن دون إضطرارك لكل ذلك التمثيل.

Exit mobile version