من روائع الأديب الحبيب مصطفى لطفي المنفلوطي
من روائع الأديب الحبيب مصطفى لطفي المنفلوطي
الأن عرفت أن الوجوه مرايا النفوس ، تضيء بضيائها وتظلم بظلامها ، فقد فارقت الرجل منذ سبع سنوات فأنستني الأيام صورته ،
ولم يبقَ في ذاكرتي منها إلا ذلك الضياء اللامع ، ضياء الفضيلة والشرف الذي كان يتلألأ فيها تلألؤ نور الشمس في صفحتها ،
فلما رأيته الآن ولم أَرَ أمام عيني تلك الغلالة البيضاء التي كنت أعرفها ،
خيِّل إليَّ أنني أرى صورةً غير الصورة الماضية ، ورجلًا غير الذي كنت أعرفه من قبل.
لم أرى أمامي ذلك الفتى الجميل الوضَّاح ، الذي كان كل منبت شعرة في وجهه فمًا ضاحكًا تموج فيه ابتسامةٌ لامعة ،
بل رأيت مكانه رجلًا شقيًّا منكوبا ، قد لبس الهرم قبل أوانه ، وأوفى على الستين قبل أن يسلخ الثلاثين ،
فاسترخى حاجباه ، وثقلت أجفانه ، وجمدت نظراته ، وتهدَّل عارضاه ، وتجعَّد جبينه ، واستشرف عاتقاه ،
وهوى رأسه بينهما هويَّه بين عاتقَي الأحدب ، فكان أول ما قلت له : «لقد تغيَّر فيك كل شيءٍ يا صديقي ، حتى صورتك!»
وكأنما ألمَّ بما في نفسي ، وعرف أني قد علمت من أمره كل شيء ، فأطرق برأسه إطراق من يرى أن باطن الأرض خير له من ظهرها ،
ولم يقل شيئًا ، فدنوت منه حتى وضعت يدي على عاتقه ، وقلت له :
والله ما أدري ماذا أقول لك ، أأعظك ، وقد كنت واعظي بالأمس ، ونجم هداي الذي أستنير به في ظلمات حياتي؟!
أم أرشدك إلى ما أوجب الله عليك في نفسك وفي أهلك ولا أعرف شيئًا أنت تجهله ، ولا تصل يدي إلى عِبرة تقصر يدك عن نيلها؟
أم أسترحمك لأطفالك الضعفاء وزوجتك البائسة المسكينة التي لا عضد لها في الحياة ولا معين سواك ،
وأنت صاحب القلب الرحيم الذي طالما خفق بالبعداء ، فأحرى أن يخفق رحمةً بالأقرباء؟!
إقرأ أيضا: المبروك من كتاب نقطة الغليان ﻟـ ﺩ.مصطفى محمود
إن هذه الحياة التي تحياها يا سيدي إنما يلجأ إليها الهُمَّل العاطلون الذين لا يصلحون لعمل من الأعمال ،
ليتواروا فيها عن الناس حياءً وخجلًا حتى يأتيهم الموت فينقذهم من عارهم وشقائهم ، وما أنت بواحد منهم.
إنك تمشي يا سيدي في طريق القبر ، وما أنت بناقمٍ على الدنيا ولا بمتبرمٍ بها ، فما رغبتك في الخروج منها خروج اليائس المنتحر؟!
عذرتك لو أن ما ربحت في حياتك الثانية يقوم لك مقام ما خسرت من حياتك الأولى ،
ولكنك تعلم أنك كنت غنيًّا فأصبحت فقيرًا ، وصحيحًا فأصبحت سقيمًا ،
وشريفًا فأصبحت وضيعًا ، فإن كنت ترى بعد ذلك أنك سعيد ، فقد خَلَتْ رقعةُ الأرض من الأشقياء!
إن كل ما يعنيك من حياتك هذه أن تطلب فيها الموت ، فاطلبه في جرعة سم تشربها دفعة واحدة ،
فذلك خير لك من هذا الموت المتقطع الذي يكثر فيه عذابك وألمك ،
وتعظم فيه آثامك وجرائمك ، وما يعاقبك الله على الأخرى بأكثر مما يعاقبك على الأولى.
حسبنا يا صديقي من الشقاء في هذه الحياة ما يأتينا به القدر ، فلا نضم إليه شقاء جديدًا نجلبه بأنفسنا لأنفسنا!
فهاتِ يدك وعاهدني على أن تكون لي منذ اليوم كما كنتَ لي بالأمس ، فقد كنا سعداء قبل أن نفترق ،
ثم افترقنا فشقينا ، وها نحن أولاء قد التقينا ، فلْنَعِشْ في ظلال الفضيلة والشرف سعداء كما كنا.
ثم مددت يدي إليه ، فراعني أنه لم يحرك يده ، فقلت له : «ما لك لا تمد يدك إليَّ؟»
فاستعبر باكيًا وقال : لأنني لا أحب أن أكون كاذبًا ولا حانثًا.
قلت : وما يمنعك من الوفاء؟
قال : يمنعني منه أنني رجل شقيٌّ ، لا حظَّ لي في سعادة السعداء.
قلت : قد استطعت أن تكون شقيًّا ، فلِمَ لا تستطيع أن تكون سعيدًا؟
إقرأ أيضا: لا تنتظر الوقت المناسب والإمكانيات المناسبة
قال : «لأن السعادة سماء والشقاء أرض ، والنزول إلى الأرض أسهل من الصعود إلى السماء ،
وقد زلَّت قدمي عن حافة الهوة فلا قدرة لي على الإستمساك حتى أبلغ قرارتها ، وشربتُ أول جرعة من جرعات الحياة المريرة ،
فلا بد لي أن أشربها حتى ثمالتها ، ولا شيء من الأشياء يستطيع أن يقف في سبيلي إلا شيء واحد فقط ،
هو ألا أكون قد شربت الكأس الأول قبل اليوم ، وما دمت قد فعلت فلا حيلة لي فيما قضى الله.
قلت : ليس بينك وبين النزوع إلا عزمة صادقة تعزمها فإذا أنت من الناجين.
قال : إن العزيمة أثر من آثار الإرادة ، وقد أصبحت رجلا مغلوبًا على أمري ، لا إرادة لي ولا اختيار ،
فدعني يا صديقي والقضاء يصنع بي ما يشاء ، وابكِ صديقك القديم منذ اليوم ،
إن كنت لا ترى بأسًا في البكاء على الساقطين المذنبين!
ثم انفجر باكيًا بصوتٍ عالٍ وتركني مكاني دون أن يحييني بكلمة ،
وخرج هائمًا على وجهه لا أعلم أين ذهب ، فانصرفتُ لشأني وبين جنبي من الهم والكمد ما الله به عليم.