من هذا فرت قريش
جملة عبقرية قالها عمر يوم أسلم بعدما استطعم حلاوة القرآن ، وذاق طعم الإيمان ، واكتشف أنه ومَن وراءه في مكة كانوا يعادون الطمأنينة ،
والسكينة ، والطهر ، دون أن يعطوا أنفسهم فرصة لاكتشافها.
فقال بلسان المتعجب النادم : من هذا فرت قريش؟!
أي ، أو مثل هذه الروعة والبهاء والجمال والجلال يُفَرُّ منه!
لا أدري لمَ أتذكر هذه المقولة العمرية كلما رأيت بني قومنا يفرون من الهداية والخير فرارهم من المجذوم!
حين أرى الناس يفرون من الحلال إلى الربا ، ومن الطهر إلى الرذيلة ، ومن المساجد إلى المقاهي ،
ومن الصلة إلى القطيعة ، ومن القرآن إلى قبيح الألحان ، ومن سكن البيوت إلى اضطراب الخلاف والشقاق.
أتذكر على الفور قولة عمر : من هذا فرت قريش!
إن حالة من اللهثان اعترت الكثيرين حتى لم يعودوا يعطون أنفسهم فرصة التفكير حتى في جمال ما منه يفرون!
مرّ هارون سيلرز المغني الشهير على متجر يخرج منه صوت القرآن في إحدى دول أوروبا ،
فانجذب له ودخل إلى المتجر يسأل عن روعة ما يسمع ومن هو صاحبه؟!
فلما علم أنها أنغام سماوية تسمى القرآن أخذ نسخة مما سمع وطار إلى فرقته يُسمِع أعضاءها روائع اللحن الذي سمعه ،
وكان في فرقته شاب مسلم أخبره أن هذا كتاب المسلمين المقدس ، وأنه لم يأت بجديد!
فقال هارون : عندكم هذا الجمال ثم تخفيه عنا! ثم أسلم وحسن إسلامه في قصة يطول شرحها.
إن لدينا كنوزا من الآداب ، والأخلاق لا يملكها غيرنا ، وكلما اهتدى الغرب إلى شيء منها ، وجد نفسه يصطدم بحقيقة :
“ما فرطنا في الكتاب من شيء” وحقيقة :
“اليوم أكملت لكم دينكم”
إقرأ أيضا: لم تكن فاطمة بنت محمد رضي الله عنها ذليلة لزوجها
وَحقيقة : “ألا بذكر الله تطمئن القلوب”
لكن عميان بني قومي يواصلون الفرار كما فرت قريش!
آه لو تخففوا من لهثانهم وجلسوا يقرؤون أورادهم ،
آه لو التمسوا سعادتهم في غير معصية ربهم ، وآه لو هدؤوا كما هدأ عمر بعدما كان فيه من ثورة وتهجُّم وملء النفس بالشر والنقمة..
إذن والله لاستراحوا ، لكنه الفرار إلى اللاشيء ، إلى التعب والنصب والنفوس الأكثر إجهادا.
ضبط مالك بن دينار لصا يسرق داره ، فارتعد اللص ، فقال له مالك : جئت للدنيا فلم تجدها ، أفلا تحوز الآخرة؟!
ثم صب عليه الماء فتوضأ ثم دله على المحراب فصلى ، -وكان الوقت آخر الليل- ،
فسمعه مالك يبكي بكاء شديدا ، ثم اصطحبه إلى صلاة الفجر في المسجد وهو يقول :
“جاء يسرقنا فسرقناه!”
ما أشبه الكثيرين منا بلصِّ مالك هذا ، يكاد يهلك نفسه بحثا عن المتاع الزائف الزائل وربما الحرام ،
بينما سجَّادة السعادة ، ومحراب الطمأنينة أقرب إليه ، لكنه الفرار الذي فرت من مثله قريش!
ليت الذين يفرون من دينهم وحلاوة وجمال وروعة وسكينة وطمأنينة دينهم ،
يدركون أنفسهم بجلسة متأملة مثل جلسة عمر في بيت أخته ،
ليعلموا كم يخسرون كل يوم بفرارهم من النور الذي يتوق العالم إلى معشاره بينما هو بين أيديهم!