كان من حديث قيس بن الخطيم ، أن جده عدي بن عمرو قتله رجل من بني عمرو بن عامر يقال له : مالك ،
وقتل أباه الخطيم بن عدي رجل من عبد قيس ممن يسكن هجر ، وكان قيس يوم قُتل أبوه صغيراً ،
وقُتل الخطيم قبل أن يثأر بأبيه عدي ، فخشيت أم قيس على إبنها أن يخرج فيطلب بثأر أبيه وجده فيهلك.
فعمدت إلى كومة من تراب عند باب الدار ، فوضعت عليها أحجاراً وجعلت تقول لقيس :
هذا قبر أبيك وجدك ، فكان قيس لا يشك في ذلك.
ونشأ شديد الساعدين قوياً ، فنازع فتى من فتيان بني ظفر ، فقال له ذلك الفتى :
والله لو جعلت شدة ساعديك على قاتل أبيك وجدك لكان خيراً لك من أن تخرجها علي ،
فقال : ومن قاتل أبي وجدي؟ قال : سل أمك تخبرك.
فأخذ السيف ووضع قائمه على الأرض ، وطرفه الذي يضرب به بين ثدييه ؛ وقال لأمه :
أخبريني من قتل أبي وجدي ، قالت: ماتا كما يموت الناس ، وهذان قبراهما بالفناء.
فقال: والله لتخبرينني من قتلهما ، أو لا تحملن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري.
فقالت : أما جدك فقتله رجل من بني عمرو بن عامر بن ربيعة ، يقال له مالك ، وأما أبوك فقتله رجل من عبد قيس ممن يسكن هجر.
فقال : والله لا أنتهي حتى أقتل قاتل أبي وجدي ،
فقالت : يا بني إن مالكاً قاتل جدك من قوم خداش بن زهير ، ولأبيك عند الخداش نعمة هو لها شاكر ،
فأته فاستشره في أمرك واستعنه يُعينك.
فخرج قيس من ساعته حتى أتى ناضحه ؛ أي البعير يستقي عليه الماء ، وهو يسقي نخله فضرب الجرير ؛ أي الجبل بالسيف فقطعه ،
فسقط الدلو في البئر ، وأخذ برأس الجمل فحمل عليه غرارتين ؛ أي كيسين من تمر ،
وقال : من يكفيني أمر هذه العجوز؟
إقرأ أيضا: قصة ضيف سيدنا إبراهيم
يقصد أمه ، فإن مت أنفق عليها من هذا الحائط ؛ أي البستان ، حتى تموت ثم هو له ،
وإن عشت فمالي عائد إلي وله منه ما شاء أن يأكل من ثمره.
فقال رجل من قومه : أنا له ، فأعطاه الحائط.
ثم خرج يسأل عن خداش بن زهير ، حتى دل عليه بممر طهران ، فسار إلى خبائه فلم يجده ، فنزل تحت شجرة ، يكون تحتها أضيافه ،
ثم نادى إمرأة خداش : هل من طعام؟
فاطلعت إليه فأعجبها جماله ، وكان من أحسن الناس وجهاً ، فقالت : والله ما عندنا من نزل ؛ أي ما يهيأ للضيف ، نرضاه لك إلا تمراً ،
فقال: لا أبالي ، فاخرجي من عندك ، فأرسلت إليه بقُباع ؛ أي المكيال الضخم فيه تمر ،
فأخذ منه فأكل شقها ورد شقها الباقي في القباع ، ثم أمر بالقباع فأدخل على إمرأة خداش بن زهير ، ثم ذهب لبعض حاجته.
ورجع خداش فأخبرته إمرأته خبر قيس ، فقال: هذا رجل متحرّم ؛ أي له عندنا حرمة وذمة ،
وأقبل قيس راجعاً ، فلما رأى خداش رجله وهو على بعيره قال لامرأته : هذا ضيفك؟
قالت: نعم ، قال : كأنه قدمه قد الخطيم صديقي اليثربي ، فلما دنا منه قرع طُنب ؛ أي الحبل تشد به الخيمة والجمع أطناب ،
البين بسنان رمحه ، واستأذن فأذن له خداش فدخل إليه ، فنسبه فانتسب ؛ وأخبره بالذي جاء له ،
وسأله أن يعينه وأن يشير عليه في أمره.
فرحب به خداش ، وذكر نعمة أبيه عنده ، وقال : إن هذا الأمر مازلت أتوقعه منذ حين ،
فأما قاتل جدك فهو ابن عم لي وأنا أعينك عليه ، فإذا اجتمعنا في نادينا جلست إلى جانبه وتحدثت معه ،
فإذا ضربت فخذه فثب إليه فاقتله.
قال قيس : فأقبلت معه حتى قمت على رأسه لما جالسه خداش ، فحين ضرب فخذه ضربت رأسه بسيف يقال له : ذو الخرصين ،
فثار إلي القوم ليقتلوني ، فحال خداش بيني وبينهم ، وقال : دعوه فإنه والله ما قتل إلا قاتل جده.
إقرأ أيضا: من هذا فرت قريش
ثم دعا خداش بجمل من إبله فركبه ، وانطلق مع قيس إلى العبدي الذي قتل أباه ، حتى إذا كانا قريبا من هجر ،
أشار عليه خداش أن ينطلق ، حتى يسأل عن قاتل أبيه ، فإذا دل عليه قال له :
إن لصاً من لصوص قومك عارضني ، فأخذ مني متاعاً ، فسألت من سيد قومه؟ فدلت عليك ،
فانطلق حتى تأخذ متاعي منه ، فإن اتّبعك وحده فستنال ما تريد منه ، وإن أخرج معك غيره فاضحك ، فإن سألك مم ضحكت؟
فقل : إن الشريف عندنا لا يصنع كما صنعت ، إذا دعى إلى اللص من قومه ، إنما يخرج وحده بسوطه دون سيفه ،
فإذا رآه اللص أعطى كل شيء أخذه ، هيبة له فإن أمر أصحابه بالرجوع فذلك خير لك ،
وإن أبى إلا أن يمضوا معه فائتني به ، فإني أرجو أن تقتله وتقتل أصحابه.
ونزل خداش تحت ظل شجرة ، وخرج قيس حتى أتى العبدي ، فقال ما أمره خداش فاحفظه ،
فأمر أصحابه فرجعوا ومضى مع قيس ، فلما طلع على خداش ، قال له : اختر يا قيس ، إما أن أعينك وإما أن أكفيك ،
قال : لا أريد واحدة منهما ، ولكن إن قتلني فلا يفلتنّك ، ثم ثار إليه فطعنه قيس بالحربة في خاصرته ،
فأنفذها من الجانب الآخر ، فمات مكانه.
فلما فرغ منه قال له خداش : إنا إن فررنا الآن طلبنا قومه ، لكن ادخل بنا مكاناً قريباً من مقتله ، فإن قومه لا يظنون أنك قتلته ،
فأقمت قريباً منه ؛ ولكنهم إذا افتقدوه اقتفوا أثره ، فإذا وجدوه قتيلاً خرجوا في طلبنا ، في كل وجه فإذا يئسوا رجعوا.
قال : فادخلا في درارات من رمال هناك ، وفقد العبدي قومه ، فاقتفوا أثره فوجدوه قتيلاً ، فخرجوا يطلبونهما في كل وجه ،
ثم رجعوا فكان من أمرهم ما قال خداش ، وأقاما مكانهما أياماً ثم خرجا ، حتى أتيا منزل خداش ،
ففارقه عنده قيس بن الخطيم ، ورجع إلى أهله.